كتبت هبة صلاح
تطوف بنا هذه الأيام نسائم الذكرى العطِرة لمولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ فمع حلول شهر ربيع الأول، تتجدد المحبة في قلب كل مسلم آمن بالنبي ولم يره، وتبدأ مظاهر الاحتفال تأخذ طريقها نحو البيوت وتظهر منافذ بيع الحلوى وتتهيأ كل أسرة لإحياء هذه الذكرى بحسب ما هو متعارف عليه في ثقافة كل مجتمع حول العالم.
من بين البلدان التي تتميز بها مظاهر الاحتفال تأتي مصر على رأس القائمة حيث تمتزج الاحتفالات بطبيعة الثقافة الدينية والشعبية والتراثية، وهذا ما يجعل من البيوت والشوارع حالة فريدة من البهجة والحب والتسابق في إطعام الطعام وتهادي الحلوى؛ وهنا نقف مع حالة تأمل لدور الأسرة في هذه المناسبة الخاصة التي تمثل احتفالا واحتفاءًا برسول الرحمة الذي كانت آخر كلماته ووصاياه للعالمين: “استوصوا بالنساء خيرا”.
عروسة.. حصان
“حلاوة زمان، عروسة.. حصان”، واحدة من إبداعات الراحل صلاح جاهين التي تعبر عن الثقافة الشعبية السائدة في مصر والتي تعكس اندماج الثقافة الدينية بالحياة عامة، والحياة الأسرية خاصة؛ فالعروسة للفتاة والحصان للولد.
وبينما نحن منهمكون في أكل الأطعمة والحلوى، علينا أن نقرأ جيدا ونتأمل الواقع الذي تعيشه أغلب الأسر في مجتمعنا المصري والعربي فيما يتعلق بالعلاقة بين الأبناء والآباء، لسبب بسيط وهو أن الرسالة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وسلم) قد خاطبت الأسرة في الأساس سواء بطريقة مباشرة أو ضمنية من خلال مواقف حياتية تزخر بها سيرته العطرة.
لا أحد ينكر أن رسالة النبي (صلى الله عليه وسلم)، جاءت رحمة للناس كافة “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”؛ هذه الرحمة شملت أول ما شملت “النساء”.
فلاش باك
كان السائد في شبه الجزيرة العربية وقت ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) هو ضياع حقوق النساء حتى حقهن في الحياة، فكان العرب آنذاك يدفنون بناتهم أحياء لاعتقاد شائع وقتها وهو أن البنات يجلبن العار؛ فبعد أن نزل القرآن على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وثق المولى سبحانه وتعالى لذلك في قوله: “وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ”، أي أنه يوم القيامة سوف تُسأل هذه الطفلة عما لاقته من أبيها؟ لتأخذ حقها منه، وهذا هو جوهر الرسالة المحمدية فيما يتعلق بقضايا الأسرة؛ الحقوق، ومنها “حقوق الأبناء على الآباء”.
كانت المرأة قبل البعثة النبوية تُعامل كسلعة أو أداة جنسية فقط، ثم استعادت قيمتها وأظهر الله حقيقة قيمتها من خلال رسالة نبيه وجعل للنساء في حياته الشخصية دورًا هامًا انعكس من خلال سيرته العطرة، فكانت المرأة في حياة النبي أم وزوجة وابنة وحفيدة، كل درجة منهن أسست لما جاء به الإسلام من تعاليم تتعلق بالأسرة ودعائمها، لاسيما علاقة الأبناء بالآباء، إلا أن فكرة دور الأب في التربية تظل غائبة عن بعض الأسر.
كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) أربع بنات من زوجته الطاهرة السيدة خديجة (عليه السلام)، وقد كسر الصورة الذهنية الخاطئة التي شاعت في مجتمعه آنذاك عن إنجاب البنات بقوله:”من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَته (أي: سَعَته)؛ كُنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة” (صححه الألباني في “صحيح سنن ابن ماجة”).
أما تربية الأبناء بشكل عام أو تربية الولد (إناث وذكور) فالنبي (صلى الله عليه وسلم) قد ترك لنا نموذجًا فريدًا من الأبوة علمنا من خلاله أن شخصية الابن هي انعكاس لشخصية الأب والأم، فلا نلوم الأبناء على شيء قبل أن نصحح المسار، وهذا ما أكده بعض الباحثين من أن دماغ الطفل بعد الولادة يكون فارغًا من أية معايير، لذلك يبقى الإنسان أسيرًا لما تطبع به واعتاد عليه وتآلف معه ويبقى محكومًا بهذه الأنماط [2].
على ذلك ومن خلال ما تعلمناه من سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) في تربية الأبناء، يمكن أن نوجه عدة رسائل إلى الآباء بحسب تصنيف شخصياتهم الأبوية.
الأب المستبد العنيد
وهو الأب الذي يتعامل مع الأبناء بالعنف والضرب وإعطاء الأوامر، ومن ثم تتكون الفجوة بينهم وبين الأبناء، وهذا يؤدي بدوره إلى حالة من الفصام لدى الأبناء تدفعهم إلى فعل كل ما هو محرم خارج البيت، والتظاهر بعكس ذلك في حضرة الوالدين. لذلك يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ” رواه مسلم. وقال أيضا: “إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ” رواه مسلم.
الأب المٌدلل لأبنائه
يدلل أطفاله ويلبي جميع رغباتهم وطلباتهم ولا يحملهم المسؤولية، فهدفه الوحيد أن يكونوا راضين، على حساب أي شيء، وهذا يشوه شخصية الطفل ويجعله اعتماديًا طوال حياته، ثم في المراحل المتقدمة من عمره، نجده يُحمل غيره أخطاءه، هنا تأتي وصية النبي (صلى الله عليه وسلم): “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ” (بخاري ومسلم)؛ راع هنا تعني مسؤولية الحفظ والرعاية ومنها الحفاظ على التوازن النفسي لدى الطفل وتدريبه على تحمل المسؤولية.
الأب المتشدد دينيا
وهو الأب الذي يفرض الالتزام بتعاليم الدين على أبنائه دون وجود أي مجال للحوار أو المناقشة أو الفهم أو حتى السؤال؛ وهذا يؤدي إلى النفور من الدين كليًا، والدخول في حلقة مفرغة من الأوامر ورفضها؛ وخاصة فيما يتعلق بإجبار البنات على ارتداء الحجاب فور وصولهن سن البلوغ، وهذا قد يدفع بعض الفتيات إلى الالتزام بالحجاب فقط في الأماكن التي هي تحت رقابة الوالدين والتخلي عنه في أماكن أخرى.
مما تركه لنا النبي (صلى الله عليه وسلم) في التعامل مع تطبيق الدين والأحكام الشرعية: “إن هذا الدين مَتِينٌ فأوغلوا فيه برفق”، يعني لا تحملوا على أنفسكم ما لا تطيقونه، فتعجزوا وتتركوا العمل.
الأب الضحية
هذا الأب يعيش دور الضحية عندما يطالبه ابنه بحقوقه، فتكون دائما الردود: كيف تطلب مني ذلك وأنا أبوك؟ ويبدأ في تعديد النعم والأفضال التي هي في الأساس حقوق لأبنائه عليه، فهو لا يفهم أن الأبناء لهم حقوق هي في حقه واجبات يحاسب عليها أمام الله إن تركها أو تخلى عنها.
هذا النوع من الآباء عالجه النبي(صلى الله عليه وسلم) عندما تكلم عن العدل بين الأبناء في كل شيء: “اعدلوا بين أبنائكم ولو في القُبَل”، فالعدل بين الأبناء واجب ليدوم الاستقرار العائلي ويحقق الأمن والأمان، وإذا وجد الأب أحد الأبناء عاقاً له فلا يجوز شرعاً أن يقابل الأب العقوق بعقوق مثله، بل يقابله بالبر والعدل والمساواة ليكون قدوة لأبنائه، ولعل البر من الوالد يكون سبباً في استحياء الابن ودفعه إلى حسن معاملة الأب .
وأخيرا الأب الصديق
هذا هو النمط الذي نختم بها كلامنا، فهذا الأب يهتم ببناء شخصية أبنائه بطريق متوازنة قدر الاستطاعة، تعتمد على الثواب والعقاب، بل وتعطي لهم اختيار العقاب، فيدرك الطفل أنه أخطأ دون تعنيف أو تجريح لقيمته كإنسان؛ هذا يخلق مساحة من الحوار والصداقة بين الأبناء والآباء، يأتي على رأسها الثقة وعدم الكذب، ومن ثم تنشأ شخصية متوازنة؛ تتحمل المسؤولية وتكون نموذجًا إيجابيًا لتربية ناجحة.
هذا النموذج المتوازن في التربية والرفق والرحمة والحوار والتقدير والثقة، تجسد في علاقة النبي صلى الله عليه وسلم مع بناته، فقد كان يقوم من مجلسه ليستقبل ابنته الصغرى السيدة فاطمة الزهراء ويقبلها على جبينها ويقول لها مرحب بأم أبيها، كما نجد وصيته صلى الله عليه وسلم بالأبناء وبالأسرة ككل حينما قال: “خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”.
تعتبر هذه المناسبة الطيبة العطرة للاحتفال بمولده، فرصة عظيمة لتصحيح المسار في تربية الأبناء لمن أراد أن تكون حياته حافلة بتعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) بشكل عملي بعيدا عن التشدد والغلو، فالأبوة رسالة عظيمة إن أحسنا أدائها كما تركها لنا النبي في تعاليمه.
—————————————————————————————————————————————————————–
[1] باحثة في دراسات النوع الاجتماعي
[2] إبراهيم البليهي، الإنسان كائن تلقائي، الجزء الأول، ص18.