دية المرأة اليمنيَّة نصف دية الرجل: عندما ينحاز الفقهاء

December 10, 2024


 يدفعنا الحديث عن دّيَّة المرأة قياسًا بدية الرجل، إلى ضرورة تمييزنا لـ(جرائم قتل النساء)، عن جرائم القتل الجنائيَّة الأٌخرى التي تختلف حيثيّاتها ومسبباتها.

تقف (العوامل الاجتماعية، والاقتصادية، والشخصية، والقانونية) خلف ارتفاع جرائم قتل النساء في العالم، وبحسب تقرير الأمم المتحدة فإنه  كل 11 دقيقة تُقتل فتاة وامرأة على يد الشريك.  وعادة ما تكون العوامل الاجتماعيَّة في المجتمعات العربيَّة هي المسؤولة عن تمرير جرائم قتل النساء  فيُبرر قتل المرأة بذرائع تُضفي على القتل مشروعيَّة، وتسمح للقاتل بالمفاخرة بجريمته، وهو ما بدى واضحًا مع جرائم قتل النساء التي ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي وكان أبرزها: قتل نيّرة أشرف، ونورهان حُسين، وسلمى أحمد، وخلود السيد في مصر، بالإضافة إلى قتل مروة البيتي، وأروى الصانع في اليمن، ومقتل إيمان إرشيد في الأردن، وغيرها من جرائم القتل التي طويت صفحاتها بعيدًا عن الإعلام في البلاد العربيَّة والإسلاميَّة

  والسؤال هُنا لماذا لا يؤخذ قتل النساء مأخذ الثأر في المجتمعات المُحافظة خصوصًا أن هُناك ارتفاع ملحوظ لجرائم قتل النساء في الشارع العربي؟

إن طرح هذا السؤال لا يُفهم منه تبني ظاهرة الثأر، لكنه سؤال تتطلب الإجابة عنه الكشف عن الأنساق الثقافية المُضمرة -أي العيوب المخفيَّة- التي تتشاركها مجتمعاتنا وتتوافق عليها. والإجابة الأقرب إلى المُتلقي العادي تتمحور حول جملة الأعراف والتقاليد التي تضع النساء في طبقة أقل من الرجال. البحث في عمق البُنية الثقافيَّة يكشف لنا عن مكونات الخطاب الذكوري الذي  يستمر بقاءه معتمدًا على الموروث الفقهي، مع الانتباه هنا إلى ضرورة  أن نُفرّق بين مصطلحي الشريعة والفقه؛ وذلك من أجل  فهم  ما نعنيه بالمورث الفقهي في هذا السياق. ف“الشريعة هي مجموعة القيم والمبادئ الدينية التي يستهدي بها المسلمون في حياتهم. وهي إلهية وأبدية. وذلك في مقابل الفقه الذي هو عملية بشرية تسعى إلى استنباط أحكام قانونية “ملموسة من الشريعة، والفقه إذن وكأي نظام اجتهاد قانوني آخر، من صنع البشر، خاضع لزمانه، وعرضة للتغيير

ووفقًا لتعريف الفقه من منطلق قابليته للتجديد والتعديل، يجب ان نفرّق بين التغريب في النص والتشكيك في صحته أو الغاءه، وبين تفنيده وفق أنيَّة الواقع. ونقصد بالتغريب في النص: الالتفاف على النص وتحميله تأويلًا مُخالفًا وغير خاضع للمصادر المرجعية المتفق عليها. فالمطلوب هنا هو أن  يتكيَّف الفقه في مدلوله الاجتهادي مع المُتغيرات الحاصلة في المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة بما يتناسب مع واقعنا المعيش

عند البحث في المنظور الديني لاستحقاق الدية، نجد أن الدية كما يُعرفها المالكية، والحنفيَّة، والشافعيَّة، والحنبليَّة هي: (المال الذي هو بدل النفس، أو الطرف). وعن أبي هُريرة- رضي الله عنه-، قال: ” لمَّا فتح اللَّه على رسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- مكَّة قَامَ فِي النَّاس فحمد اللَّه وأثْنى عليهِ، ثُمَّ قَالَ: “وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُفْدَى وَإِمَّا أَنْ يُقِيدَ”.  وعن مقدار الدية المنصوص عليها فإن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: “إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ، وَالْعَصَا، مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِ أَوْلَادِهَا.” إن الاتفاق على مشروعية الدية في القرآن والسُنّة أمر لا خِلاف حوله، ولكن يبقى محل الخلاف حول دية المرأة قياسًا بدية الرجل، وقد قال الإمام الشافعي في كتابه الأم: ” لم أعلم مُخالفًا من أهل العلم قديمًا ولا حديثًا في أن دية المرأة نصف دية الرجل، وذلك خمسون من الإبل” 

إن الاحتكام للجزئيات لا يجب ان يُهمل الكُليَّات التي جعلت من المساواة حقًّا أصيلًا لكل البشر، وان تمييزهم قائم على تقواهم، وهو ما جاء في قوله تعالى  في سورة الحجرات: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.  كما إن تشريع القصاص في القرآن الكريم لم يُفرّق بين الرجل والمرأة فقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ 

أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ﴾، فالآية هنا جاءت بلفظ العموم، وهو ما تكرر في الآيات الدالة على الحدود التي ساوت  بين المرأة والرجل، إما بعموم اللفظ أو تخصيصه، فعلى سبيل المثال، قال تعالى في سورة النور: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

من أين تأتي أحكام الدية للمرأة إذن؟ أغلب الآراء التي تُجمع على أن دية المرأة نصف دية الرجل استندت إلى الأحكام التي تتعلق بميراث المرأة، وشهادتها، وهو ما أورده ابن القيم الجوزية في إعلام الموقعين عن رب العالمين  بقوله:”وأما الميراث، فحكمة التفضيل فيه ظاهرة. فإن الذكر أحوج إلى المال من الأنثى، لأن الرجال قوَّامون على النساء، والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى”. إن اعتماد قياس الدية مقابل الميراث -بمعنى أن المرأة ترث نصف ما يرث أخيها وعلى أساس ذلك تُحسب ديتها- لا يمكن مطابقته إلَّا على حالة واحدة من الميراث لإن ميراث المرأة يختلف  باختلاف موقعها في الأُسرة، وعدد أفرادها من الذكور، والإناث،  بل أن ميراث المرأة  يتساوى مع الرجل في  بعض الحالات، وتُسمى هذه الحالة بـ(التشريك) الذي ورد في قوله تعالى: ﴾.﴿ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ 

فإذا كانت المرأة ترث في بعض الحالات مثل الرجل، أو أكثر منه، فلماذا إذًا لا تُقاس ديتها على أساس ذلك؟ اعتمد ابن القيم  في تفسيره لمقدار دية المرأة على المفهوم الكُلي لقوامة الرجل، وقد أورد ذلك  في إعلام الموقعين عن رب العالمين، قائلًا: “وأما الدية، فلما كانت المرأةُ أنقصَ من الرجل، والرجلُ أنفعَ منها، ويسُدُّ ما لا تسدُّه المرأة من المناصب الدينية والولايات، وحفظ الثغور والجهاد، وعمارة الأرض…”. هذه التعليلات التي وضعها ابن القيم في مقارنته بين الرجل والمرأة، قد تصدق في عصور سابقة لم تستطع فيها النساء المشاركة في الحياة العامة كالرجال، ولكن ضمان استمراريتها اليوم لا يمكن تفسيره فالمرأة تتشارك مع الرجل في كفالة أولادها، وقد تكون هي المعيل الوحيد لأسرتها في حال عدم مقدرة الرجل على اعالتهم، وهو ما يعني أن هذه المرأة تتحقق فيها الشروط التي بنى عليها ابن القيم استحقاق الرجل دية تساوي ضعف دية المرأة 

في السياق نفسه قدّم  أبو جعفر عبد الله خليفي التبريرات نفسها التي ذكرها ابن القيم، وذلك في رده على مراد شكري الذي يؤيد حق المرأة دية تُساوي دية الرجل، وبرر أبو جعفر حق الرجل في دية أكبر بالمسؤولية التي تقع عليه؛ كونه رجل مُعدد، فلو كان متزوجاً بأربعة نساء فإنه سيكون مسئولاً عن كل زوجة وأولادها، بينما المرأة لا تكون مسئولة إلًا عن أولادها هي فقط وزوج واحد. إن هذا التفسير غير مقبول، فالرجل الذي يتزوج أربع نساء، اختار بنفسه ذلك، وبالتالي فإعالته أربع أُسر أمر مرتبط بالعدل الذي جعله الله شرطًا للتعدد؛ وليس ميزة يحصل بموجبها الرجل على دية أكبر. أما فيما ورد من أقوال عن تواتر نصاب دية المرأة بنصف دية الرجل وإرجاعه لقول الصحابة وفعلهم، فيمكن مناقشة ذلك فيما يتصل برفع الحد عند حدوث الضرر، ولنا في عام الرمادة مثالًا، فعندما اشتدت المجاعة في الجزيرة العربيَّة رفع  الخليفة عمر بن الخطاب  حدّ السرقة لعدم توفر شروط الحدّ، والذي ورد  في قوله تعالى، ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ كما أنه أجَّل جمع الزكاة حتَّى تنتهي المجاعة والقحط 

الشاهد هُنا أنه يُمكن في حال الضرورة واقتضاء المصلحة العامة، إحداث تغيير لرفع الضرر،  وهو ما يفترض على المُشرّع أخذه في الاعتبار  لا سيما وأن مقتضيات الواقع  تتغير من زمن إلى آخر. والأمثلة على ذلك موجودة في ثنايا المصادر والمرويات الثقافيّة المختلفة.  

عند النظر في السياق اليمني فيما يخص دية المرأة، القانون رقم (١٢) لسنة ١٩٩٤م ينص على أن دية المرأة نصف دية الرجل.  وعلى الرغم من أن القوانين اليمنيَّة  المتعلقة بالدية والميراث لم تشهد تعديلًا جوهريًّا فيما يتصل بحقوق المرأة المساوية للرجل، إلَّا ان المادة 49 من  وثيقة الحوار الوطني تنص بشكل واضح على صيانة حقوق الإناث والذكور على نفس القاعدة من المساواة. إلَّا ان هذه الوثيقة لم يتم العمل بها بسبب اندلاع حرب ٢٠١٥م في اليمن مما نتج عنه الاستمرار بما هو معمول به من القوانين والتشريعات السابقة لهذه الوثيقة

إن استمرار سريان القوانين التي تنص على أن للمرأة نصف دية الرجل، وفقًا للمُسلّمات الفقهية التي شُرّعت على أساسها النصوص القانونيَّة المُحددة للدية، لا تتسق مع حُرمة وتكافئ الدماء التي وردت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم ويردُّ عليهم أقصاهُم وهم يدٌ على من سواهم ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ.” فمن غير المنطقي أن نحكم بدية أقل للمرأة من مُنطلق أحكام المواريث التي تختلف باختلاف عدد الذكور والإناث، ووجود الأب والأم… إلخ، وأن نستمر في تبرير حكم نصف الدية للمرأة  مقابل دية الرجل من باب أن الرجل هو المُوكل بالإنفاق وتحمل أعباء الاُسرة، فكيف يستقيم هذا التمايز في الديات بين المرأة والرجل بدون ردم الحُجج والمُسلمات المذكورة التي تؤيد استحقاق الرجل لضعف دية المرأة؟

إن المُطالبة  بمُعالجة إشكالية دية المرأة وفق نصوص حقوقيَّة تُنادي بمبدأ المساواة من منظور فوقي لا يتصل بماهيَّة المجتمع، ولا ينطلق من قيمه التأصيليَّة غير مجدي، فالأعراف المُجتمعيّة التي تحتمي بالمنطلق الفقهي تحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل وفق مبدأ تقديم المصلحة فـهو المنهاج الذي يجب أن يُعتدّ به في مثل هذه القضايا)، والإصلاح ممكن مادام توّفرت النيّة الصادقة للتغيير؛ لا سيما وأن التغيير والإصلاح من السمات الراسخة للتراث الفقهي الإسلامي وهو ما يجب الانطلاق منه إذا ما أردنا أن نُقيَّم الأحكام المتعلقة بحقوق المرأة قياسًا بالرجل وفق المنظور الفقهي


د. نُهى الكازمي أستاذة جامعية في كُليَّة الآداب بجامعة عدن، وباحثة في مجال الأدب الشعبي اليمني المادي وغير المادي، وفي قضايا النوع الاجتماعي. قدمت قراءات نقدية مختلفة، ونشرت العديد من المواد الصحفية الثقافية والأدبية فيما له صلة مباشرة بقضايا النوع الاجتماعي، والأقليات، ودراسة الأنساق الثقافية المؤثرة فى قضايا المساواة وحقوق الإنسان، خاصة حقوق المرأة والطفل

More from Newsroom

The Significance of Muslim Women’s Consent

“In January 2003, I was pulled out of school, forced to travel to Pakistan with my uncle and his wife, and married to a 25-year-old man I had never met.” Aliya was 17 when she was married off to a stranger by her legal guardians and became trapped in an abusive forced marriage.

Read More »