تأملات شخصية
بعد زواجي، أصبحتُ ربة منزل بدوام جزئي نظرًا لعملي بدوام كامل خارج المنزل. وبقدر امتناني لزوجي الذي بدأ في تعلم كيف ندير هذا البيت الجديد سويًا، لنجلس في مكان نظيف و نأكل وجبة دافئة بعد يوم عمل شاق، بقدر ما أحسست بغضب عارم تجاه الضغط غير المباشر الذي أتعرض له. فعادة ما تُنصح النساء بالبحث عن عمل يعينها على “تحقيق التوازن” بين الواجبات المنزلية والعمل، وهي قولة حق يراد بها الإفقار والتقييد، ولا يُطالب بها أرباب الأسر من الرجال أبدًا. فوجدت أحلامي وخططي تنكمش بشكل تلقائي لتناسب هذا التوازن المزعوم. هذا، وأنا لم أصبح أمًا بعد، فكيف إذا دخل الأطفال المعادلة؟
أصحو من النوم كل يوم وابدأ السباق، ألهث ذاهبة لمقر عملي البعيد عن منزلي، وأحاول إتمامه على أكمل وجه، وفي ذات الوقت لا يتوقف عقلي عن التفكير مسبقًا في كيفية استغلال ما يتبٍقي لي من وقت بعد العودة للملمة البيت وتجهيز وجبة ساخنة وقراءة شيء جديد، أو ربما أستمع لشيء وأنا أطبخ بدلًا من القراءة، محاولات دائمة لكي لا أتخلف عن عن الركب في مجال عملي. ذلك بالإضافة لصيانة ما يحتاج صيانة في المنزل، القيام ببعض الواجبات الاجتماعية والمكالمات، التأكد من أن البيت بحالة معقولة، وبالطبع النوم مبكرًا لتكرار الأمر كله في اليوم التالي. لا يرهقني جسدي بقدر ما أشعر أن عقلي سينفجر، كيف يمكن لشخص أن يفكر في إتمام كل هذه الأمور معًا، كل يوم!
لا يبدو زوجي بذات التشتت، يركز في عمله فقط، أحسده على قدرته على عدم التفكير في كل هذه التفاصيل، وأتساءل لم تبرمج مخه منذ الصغر على عدم إعطاء هذه اللوجستيات أكبر من حجمها، ولم تبرمجت أنا على الإحساس بالذنب الدائم تجاهها؟
العمل المجاني
يتم توجيه السيدات العاملات بشكل مباشر أو غير مباشر لاختيار مجالات عمل لا تتيح فرصة للترقي المهني أو العلمي أو الطبقي، فهناك نمط معين للوظائف التي تُدفع الفتيات منذ الصغر على اختيارها والبحث عنها، لكي تناسب “طبيعتهن” المدعاة. والحقيقة أن الأمر معكوس، فهذه الطبيعة تُخلق خلقًا نتيجة للبرمجة والتربية لا العكس. فتنشأ الفتيات منذ الصغر على تقديم الرعاية للأسرة، على عكس الذكور. تكبر النساء وهن يقمن بفعل الرعاية بشكل تلقائي وكأنها “طبيعة” بينما يعتقد الرجال أن نظافة الصحون والملابس تتم من تلقاء نفسها، غير مستوعبين لصعوبة هذه المهام ولا الوقت الطويل الذي تستهلكه.
الأعمال المنزلية، والتي تكون في الغالب الأعم من نصيب الزوجة، هي أعمال غير مرئية. ليس فقط لأنها تتم وراء الأبواب المغلقة، ولكن أيضًا لأنها لا تقدر ماديًا، على الرغم من أنها تستهلك وقت ومجهود النساء بشكل يومي. تنظر الأعراف الاجتماعية “لأعمال الرعاية” على أنها دور طبيعي للمرأة وواجب عليها تقديمه، وأنها لا تتطلب مهارات خاصة. لا يعتبرها المجتمع”عملًا حقيقيًا” لأنها تتم بدون أجر، على الرغم من كونها ضرورية لتيسير الحياة اليومية وبالتالي عجلة المجتمع، بل والاقتصاد بأكمله!
العمل المنزلي عمل أساسي يساهم في عملية إنتاج وإعادة إنتاج أهم سلعة في سوق العمل، وهي قوة العمل البشري. بالإضافة لأن العمل المنزلي يحول السلع المختلفة التي يجلبها الرجال للمنزل لمأكل ومشرب وملبس. كما أنه يوفر خدمات مجانية للرجال العاملين، بل ويوفر أيضًا لأصحاب الأعمال، فهم يستفيدون من وقت العاملين بالكامل ويتمكنون من دفع أجور منخفضة للعمال الرجال، مدركين أن النساء توفر خدمات مجانية لهم في المنزل كانوا من الممكن المطالبة بأثمانها الباهظة من أصحاب العمل. ما أحاول قوله هو أن النساء تساهم بشكل غير مباشر في ثراء أصحاب الأعمال، وتوفير أموال العاملين أنفسهم، وذلك دون أي مقابل.
وفقًا لتقرير منظمة (أوكسفام) الصادر عام ٢٠٢٠، تبلغ القيمة النقدية لأعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر على مستوى العالم للنساء اللواتي تزيد أعمارهن عن 21 عامًا، 22.1 تريليون دولار سنويًا على الأقل، أي ثلاثة أضعاف القيمة النقدية لصناعة التكنولوجيا في العالم. كما يوضح التقرير أن القيمة الزمنية لأعمال الرعاية التي تقوم بها النساء يوميًا على مستوى العالم تقدر ب 20.1 مليار ساعة بدون أجر أو اعتراف.
بقدر أهمية العمل المنزلي، بقدر الاستنزاف الذي يتسبب به بدنيًا ونفسيًا وعاطفيًا للنساء. يحرم العمل المنزلي النساء من فرص بديلة بسبب فقر الوقت، كانت ستتيح لهن اكتساب مهارات المجال العام، وتخفف عزلتهن عن محيطهن، والأهم كانت ستعطيهن فرصة لاكتساب أموالهن الخاصة، وهو الحق الأبرز الذي يتم إهداره في هذه المنظومة.
تظن ربات البيوت اللاتي يعملن بدوام كامل في المنزل، أن العمل في المجال العام يفوق قدراتهن وأنهن لا يمتلكن المهارات اللازمة ولا الخبرات الإنسانية الكافية للقيام به، وعادة ما ينظرن لأنفسهن بعين التقليل بسبب بقائهن في المنزل، غير مدركات كيف يتطلب عملهن في المجال الخاص ذكاء ومهارة ومجهودًا بدنيًا وذهنيًا وعاطفيًا ضخمًا يعادل، بل ويفوق، العمل في المجال العام. ليس هذا فحسب، بل يقمن به دون تفاعل إنساني مع زملاء عمل أو أقران وبإحساس مستمر بالاغتراب، وأن هذا العمل غير مرئي لأحد ولن ينتهي أبدًا. أما ربة البيت العاملة فتعيش بإحساس دائم بالاستنزاف والذنب، فهي تقدم مالًا ووقتًا ومجهودًا وخدمة، فتشعر بمرارة الاستغلال حتى من أقرب الناس بسبب العبء المزدوج عليها خارج وداخل المنزل.
ليست هذه دعوة لتمجيد منظومة العمل الحديثة وحثًا للجميع على الانضمام إليها. المشكلة أن يظل هذا الدور غير المرئي وغير مدفوع الأجر حكرًا على النساء دون الرجال، والمشكلة الأكبر أن يبقى القائم بهذا الدور في حاجة مادية دائمة للإعالة وعدم قدرته/ا على النفاذ لحقه/ا الطبيعي والمشروع بتكوين الثروات الشخصية، حتى وإن كانت بسيطة.
نحن أمام دائرة جهنمية من البذل دون مقابل، فماهي الإجراءات الاجتماعية و القانونية والفقهية التي يمكن أن تكسر هذه الدائرة؟
من أين يبدأ الحل؟
إذا بدأنا من خط نهاية الزواج، أي حالة الطلاق، فلابد من إيجاد آلية للتعويض المادي عن المجهود المبذول في الأعمال المنزلية وأعمال الرعاية لضمان حياة كريمة للنساء تتناسب مع المستوى الذي عشن فيه وساهمن في توفيره أثناء الزواج،
خصوصًا بعد الزيجات الطويلة. فكما هو مفعل في بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة كماليزيا، تحصل النساء على نسبة من أصول وممتلكات وأموال الزوج تتراوح بين ٣٠-٥٠٪ إذا تم الطلاق بعد سنين زواج طويلة تقديرًا لدور الزوجة في تكوين هذه الثروة بشكل غير مباشر كربة منزل، وذلك سواء كانت المرأة غير عاملة أو عاملة. في حالة الجهود المباشرة المشتركة من الطرفين تميل المحكمة للتقسيم المتساوي للممتلكات، أما في حالة الجهود المباشرة المنفردة من أحد الطرفين، التي يكون فيها الطرف الثاني -والتي غالبًا ما تكون الزوجة- قد قدم خدمات رعائية لرفاهية الأسرة ولم يشارك مباشرة في اكتساب الأصول، تميل المحكمة لمنح الزوج نسبة أكبر من الأصول، وتحصل الزوجة عادة على ثلث الأًصول.
أما في حالة الزواج المستقر، قد تكون هناك موائمات أقل حدة من طرح “الأجر مقابل العمل المنزلي”، قائمة على التراضي بين الطرفين، مثلًا تسجيل بعض الممتلكات باسم الزوجة. فالهدف ليس تسليع العمل المنزلي، وإنما تصحيح اختلال موازين القوى الاقتصادية وتركز الممتلكات داخل الأسرة في يد الزوج وحفظ حقوق النساء المادية والمعنوية.
أما الحل طويل الأمد والذي لا مفر منه، فهو تغيير الثقافة المجتمعية تجاه الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء وما يتبعها من تغيير التصورات النمطية عن دور الرجل في الأسرة. فلا يمكن كسر هذه الحلقة إلا بنشر ثقافة التشارك في الأعمال المنزلية والعمل على إزالة الوصم الاجتماعي المرتبط بممارسة الرجال لهذه الأعمال. ولكي يبدأ المجتمع هذا النقاش ينبغي أن نسأل، هل تقديم الرعاية يتعارض مع مفاهيم الرجولة؟ هل الأعمال المنزلية أعمال تحط من الكرامة لذا لا ينبغي “لرب” الأسرة القيام بها لحفظ كرامته؟ وإذا كانت هذه الأعمال تحط من كرامة القائم عليها، لم لا يثور أحد لكرامة النساء؟
ولكي لا يكون مقترح التقدير المادي للأعمال المنزلية تسليعًا لهذا العمل أو ذريعة لبقاء النساء داخل المجال الخاص واستبعادهن من المجال العام، لابد من خلق تبادلية في الأدوار وتفكيك ثنائية الإنفاق في مقابل الرعاية. يستلزم هذا الأمر مراعاة دورالرجل كأب ومقدم رعاية في أماكن العمل سواء الحكومية أو الخاصة، من خلال توفير إجازات ومزايا واستثناءات رعاية الأطفال للأم والأب على حد سواء، وبالطبع خروج النساء للمجال العام سواء عن طريق العمل أو المشاركة المجتمعية بأشكالها المختلفة.
سارة ماجد، باحثة في الدراسات النسوية حاصلة على ماجستير دراسات النوع والتنمية، جامعة القاهرة