Call us +603-2083 0202 | [email protected]
[wpml_language_selector_widget]

العنف الزوجي بين تأويلات تبيحه وقوانين تشرعنه                              

بالرغم من النضال الطويل الذي قامت -وما زالت تقوم- به الحركات النسوية المتتابعة، لا تزال ظاهرة العنف المنزلي من الشريك مشكلة تواجه النساء في مصر، حيث تتعرض ٥ مليون و٦٠٠ ألف امرأة إلى العنف على يد الزوج أو الخطيب سنويًا، وفقًا لمسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام ٢٠١٥. العنف المنزلي، ويعرف أيضًا بالإساءة الأسرية أو عنف الشريك الحميم بحسب تعريف الأمم المتحدة هو نمط سلوك في علاقة ما يُمارَس لإحراز السلطة والسيطرة على شريك حميم أو لمواصلة إخضاعه لهما. والإساءة هي مجموعة أفعال جسدية أو جنسية أو عاطفية أو اقتصادية أو نفسية تؤثر في شخص آخر، أو هي التهديد بارتكاب هذه الأفعال. ويشمل ذلك أي سلوك من شأنه ترويع شخص أو تخويفه أو ترهيبه أو التحكّم به أو إيذائه أو إهانته أو لومه أو إصابته أو جرحه

العنف في حد ذاته مشكلة كبيرة ومعقدة وترتبط بعوامل عدة، لكن الأخطر هو مسألة التطبيع مع العنف الممارس من الشريك ضد النساء في مصر. هذا التماهي مع العنف يرتكز إلى الاعتقاد الراسخ في أذهان العديد من الأسر المصرية بأنه من حق الزوج تأديب زوجته مستخدمًا أي من وسائل العنف، حيث يتم استخدام مفاهيم مثل الولاية والقوامة، لتكريس عدم تكافؤ القوى بين المرأة والرجل في العلاقة الزوجية وتصويرها كعلاقة تراتبية يترأسها الرجل وتخضع فيها المرأة. ويشكل هذا التمييز ضد النساء قاعدة لمنظومة قانونية أيضًا تمييزية يمكن تتبعها من خلال قوانين الأحوال الشخصية على سبيل المثال. كذلك، فإن قوانين العقوبات في بعض السياقات المسلمة تعكس فهمًا أبويًا يمنح الرجل سلطة على أقاربه من النساء، وبالتالي، يؤدي ذلك إلى درجات متفاوتة من العنف ضد النساء إذا ما تم ارتكاب هذه الجرائم بـ”نية حسنة” بهدف ما يسمى بالتأديب

مصدر الصورة: مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي 2015

في حوار مع أستاذة الدراسات الإسلامية والدينية المقارنة بجامعة منوبة بتونس والمتخصصة في قوانين الأسرة والفقه والفتاوى وأصول الفقه، الدكتورة زهية جويرو، أفادت بأن القانون هو أحد العوامل الفاعلة في تشكيل العنف المسلط على النساء بسبب الإصرار على التمسك بأحكام منقطعة الصلة بسياقاتنا المعاصرة. وتذكر على سبيل المثال إباحة تعدد الزوجات والسكوت عن تحديد سن أدنى للزواج وتخاذل القوانين عن حق النساء في الممتلكات التي تُكتسب أثناء الحياة الزوجية أو حتى حرمانهن تمامًا من ذلك بالقانون نفسه رغم كل الشقاء الذي تعانيه النساء داخل البيوت وخارجها، هي جميعها من أشكال العنف الذي يُمارس على النساء. وتضيف كذلك أن حرمان النساء من ميراثهن في بعض البلدان ذات الأغلبية والأقلية المسلمة هو شكل آخر من أشكال العنف، بالإضافة إلى منح الزوج الحق المطلق في التطليق وحرمان النساء من نفس الحق يضطر الأم المطلقة إلى العيش تحت تهديد حرمانها من حضانة أبنائها إن أرادت أن تستأنف حياتها مع زوج آخر أو تحت سيف الوحدة إذا أرادت أن تحافظ على تلك الحضانة، “فهذا بالنسبة إلى الأم عنف لا مثيل لشدته وقسوته”، بحسبها، واصفة ذلك بـ”العنف الرمزي” الذي يلقي بظلال كل هذا الظلم والقهر على النساء ويفرض عليهن تحمله لأن ذلك هو “شرع الله” كما يزعم البعض

قد يعتقد البعض أن مأسسة الدين داخل الدولة من شأنه أن يشكل عائقًا أو مقاومة للجهود التي تبذلها المبادرات والمجموعات النسوية من أجل الضغط لإقرار قوانين أكثر إنصافًا للنساء. لكن في الوقت نفسه هناك بعض الدول العربية التي يشكل الدين جزءًا أساسيًا من هويتها (مثل المسيحية في لبنان، والإسلام في الأردن والسعودية على سبيل المثال) قد تمكنت من إقرار قوانين للحد من العنف المنزلي. لكن بالرغم من ذلك، نجد عدم توافق هذه القوانين مع قوانين أخرى تتسامح مع العنف، مما يمنح الزوج المعنف فرصة “الإفلات من العقاب”. ومن أشهر الأمثلة على ذلك، المادة ٦٠ من قانون العقوبات المصري التي تنص على أنه “لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة”، وهي المادة التي تساهم بشكل كبير في إفلات الأزواج من العقاب في حال مارسوا العنف ضد زوجاتهم

ترى د. زهية أن مسببات العنف تكمن في الثقافة المهيمنة، بالإضافة إلى الخطاب الأبوي المبني على تفسيرات ذكورية مغلوطة للنصوص الدينية، مشيرة إلى أن الدول التي استطاعت أن تسن قوانين للحد من العنف ضد النساء تمكنت من ذلك بفضل عاملين مهمين: الأول هو حركات الإصلاح الديني والقراءات النقدية للنصوص الدينية وتراثها التي تعيد النظر في مصادر شرعنة ما يمكن أن يتعارض مع كرامة الفرد ومع حقوقه الإنسانية. أما العامل الثاني فهو العمل السياسي الذي بمقتضاه يصبح التشريع عملًا وضعيًا نابعًا من إرادة الشعوب وممثلًا لها. أما في العالم الإسلامي، بحسبها، لم تستطع حركة الإصلاح الديني التي انطلقت منذ بداية القرن الماضي أن تحقق الغاية في إيجاد قاعدة للانسجام بين ثوابت الدين وقيمه العليا ومقتضيات مجتمعات متبدلة متغيرة، بل ما حدث فعليًا هو عودة الأطروحات الأشد انغلاقًا وتطرفًا لتتصدر المشهد و تعيدنا إلى نقطة الصفر في سلم الإصلاح والتقدم. كذلك على الصعيد السياسي، فقد شكل بروز الإسلام السياسي عائقًا عنيفًا في وجه أي إمكانية لتأسيس نظام حكم وقوانين من شأنها أن توفر بالفعل حماية من العنف بدلًا من “شرعنته”. لذلك، تعتقد أن الوضع في مجمل البلدان الإسلامية في مجال مناهضة العنف ضد النساء يظل مشدودًا بين مطالبات مشروعة منصفة للنساء بدون سند سياسي يدعمها، وميزان قوى فكرية مازال يميل نحو الأطروحات التي تشرعن العنف باسم الدين و أطروحات أخرى اجتماعية تميل نحو القوى المحافظة والمهيمنة على السلطة

في الوقت نفسه، استطاعت بعض الدول العربية أن تُدخل إصلاحات على منظومتها القانونية لفرض حماية النساء من العنف وضمان حقهن في المساواة، منها على سبيل المثال دولة المغرب التي تمكنت من الدفع بمنظومة الأحوال الشخصية نحو المزيد من المساواة بين المرأة والرجل فيما يتعلق بالزواج والطلاق وحضانة الأطفال، من حيث إلغاء الطلاق الشفهي وإقرار المساواة بين الزوجين وغيرها. وذلك من خلال الإصلاحات التشريعية التي أدخلتها على قوانين الأسرة والتي نتج عنها مدونة الأسرة المغربية عام ٢٠٠٤ لتصبح واحدة من الأمثلة التي يحتذى بها في العالم العربي. وتعتقد د. زهية أن من أهم المشاكل التي تواجه تلك الإصلاحات تأتي من الممارسات الاجتماعية التي تلتف على القانون، بسبب قلة الوعي الاجتماعي الذي ما زال يرى النساء في مرتبة أدنى من الرجال ولم يصل إلى الحد الذي بلغته نصوص بعض القوانين في باب مناهضة العنف ضد النساء والفتيات

وعلى المستوى المحلي في مصر، فقد ناضلت الحركة النسوية طويلًا في سبيل إقرار قانون لحماية النساء والفتيات من العنف الأسري من خلال إطلاق العديد من المبادرات وحملات المناصرة، لكن حتى الآن لم تحرز تلك الأنشطة نجاحًا ملموسًا في مجال العنف المنزلي على مستوى القوانين. تعزو د. زهية هذه المقاومة من قبل السلطة التشريعية لوجود عدة عوامل متشابكة، منها على سبيل المثال عدم وجود استجابة قوية وفعالة من قبل المؤسسات الرسمية لمطالب النساء والتمسك المستمر بالفهم التقليدي المحافظ دون محاولة الانخراط في مشاريع الإصلاح والمراجعة. وتضيف أن المؤسسات بالتالي لازالت لا تستمع إلى أصوات النساء المطالبة بالإصلاح، فضلًا عن العمل على الاستجابة لها وصناعة التغيير

أما عن الحلول المقترحة من وجهة نظر د. زهية، فهي استمرارية الحركة النسوية والقوى التقدمية في البلاد في العمل على العاملين الأساسيين الممثلين أولًا في العمل على تغيير القوانين في الاتجاه الذي يجعلها ضامنة للقضاء على العنف ضد النساء والفتيات، على أن تكون هذه القوانين مدعومة بالمؤسسات والإجراءات التي تضمن تطبيقها فعليًا على أرض الواقع. وثانيًا، مواصلة العمل التوعوي والفكري الطويل المدى من أجل تغيير الممارسات الاجتماعية، ورفع الوعي حول جرائم العنف ضد النساء والاعتراف بها كجرائم وليست ممارسات يمكن التسامح معها أو تبريرها مجتمعيًا أو دينيًا

هناك حاجة ماسة لضرورة اشتباك المؤسسات الدينية والتشريعية مع متطلبات الإصلاح فيما يتعلق بقوانين الأسرة والأحوال الشخصية، ومحاولة الاجتهاد والمراجعة للأحكام الفقهية التي لا تتناسب مع العصر الحالي، والعمل على إعادة إنتاج المعرفة الدينية المتعلقة بحقوق النساء. هناك ضرورة ملحة لوجود إرادة سياسية مستجيبة لتلك المطالبات الإصلاحية، ترى النساء كأفراد فاعلة في المجتمع على قدم المساواة مع الرجال وليس مواطنات ثانويات أو تابعات للرجال، خاصة مع وجود مطالبات مستمرة منذ سنوات طويلة بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية المهترئة في مصر

اسرا صالح، صحفية وباحثة نسوية من مصر. حاصلة على درجة الماجستير في الصحافة والإعلام الحديث من معهد الإعلام الأردني. متخصصة في الصحافة الحساسة للنوع الاجتماعي وكتابة المقالات والقصص الصحفية من منظور نسوي بالتعاون مع مؤسسات صحفية ومنظمات مجتمع مدني محلية وإقليمية على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. منتجة ومقدمة بودكاست سلمون