Call us +603-2083 0202 | [email protected]
[wpml_language_selector_widget]

دور المرأة المسلمة في إنتاج ونقل المعرفة الدينية

لايزال حق المرأة في انتاج فكر ديني وتقلدها لمراكز قيادية في المؤسسة الدينية محل خلاف، كما تقوم العديد من الدراسات حول مكانة المرأة في الإسلام بإرساء الصورة النمطية لدورها، وقصره على المجال الخاص داخل المنزل ورعاية الأسرة، واقصائها عن مجال العلوم الدينية وإهدار حقها في الاجتهاد والإفتاء. يرجع ذلك بالأساس لغياب صوت ووجهة نظر النساء في الوقت الحاضر عن المراكز الدينية القيادية، فعلى سبيل المثال لم تدخل تشكيلة هيئة كبار العلماء وهي أعلى مرجعية دينية تابعة للأزهر بمصر امرأة واحدة منذ إنشائها عام 1911، ولم يسبق أن تولت امرأة منصب الإفتاء منذ تأسيسه في مصر أو تونس، وهي البلد الذي يحتضن مسجد الزيتونة والذي يعد أقدم الجامعات الإسلامية. إن إصرار البعض على دونية النساء من الناحية العقلية مبني على تفسيرات أبوية للدين، تم بنائها في لحظات تاريخية تختلف بشكل كبير عن واقعنا الآن، وحان وقت إعادة النظر فيها

بالبحث ودراسة الآثار التاريخية لدور المرأة المسلمة في مجالات إنتاج ونقل المعرفة الدينية واستنباط الأحكام الفقهية، وتدريس العلوم الدينية، وفي مجال راوية الحديث، ينكشف لنا عدم دقة الرواية السائدة حول عدم وجود المرأة المسلمة داخل تلك الحلقات. كانت المرأة المسلمة دومًا حاضرة في ساحة العمل الديني منذ بداية عصر الرسالة، حيث كانت أمهات المؤمنين/ات والصحابيات يسألن الرسول بشكل مباشر ويتعلمن منه وينقلن عنه، وهناك العديد من الوقائع، التي تدل على أن النساء كن حاضرات وفاعلات منذ اللحظة الأولى للإسلام، فمثلا حين سألت أم سلمة النبي “مالنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال؟” كما جاء في تفسير الطبري وابن كثير، كان ذلك السؤال هو سبب نزول قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ الآية ٣٥ من سورة الأحزاب

لا شك أن مثل تلك الوقائع تدل على حرص النساء على أن يذكرن كما الرجال، وألا يتم اقصاؤهن، وكذلك، أن النساء لم يكن يخجلن، بل كن يعبرن عن احتياجاتهن، ولم يكن منزويات في المنازل، إنما كن مشاركات في الحياة العامة، فكن يخاطبن الرسول بشكل مباشر ويتعلمن منه كما الرجال، كما تعكس تلك الواقعة ومثيلاتها حرص الإسلام على مخاطبة النساء كجزء من المجتمع والإنصات لأصواتهن واحترامهن وعدم التفريق بين المسلمات والمسلمين، وأن رسالة الإسلام جاءت لتؤكد على التساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات والجزاء، كقوله سبحانه : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الآية ٧١ من سورة التوبة

لم يقتصر دور المرأة في ميدان المعرفة الدينية على نقل المرويات، كما يصور البعض في الوقت الحاضر، وإنما امتد لكل فروع المعرفة الدينية خاصة تلك التي تتطلب قدرات عقلية عالية كمجال إنتاج المعرفة وتدريسها، فالنساء لهن مساهمات في الفقه، ولم يكن دورهن مقتصرًا على استنباط الأحكام الخاصة بالنساء، وإنما كان دورًا ممتدًا لكل قضايا الفقه والتشريع، كما عملت المرأة بتفسير القرآن وإدارة المنشآت الدينية. قال النبي صلى الله عليه وسلم عن السيدة عائشة: “خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء،” فكان لها نصيب الأسد من مرويات الأحاديث عن النبي، وكانت بفضل ذكائها مقصدًا للرجال والنساء للسؤال عن أمور الدين، كما كان كبار الصحابة يسألونها حتى عن الفرائض، ويذكر ابن عبد البر، وهو فقيه وقاضي ومؤرخ في كتابه “الاستيعاب”، قول عطاء بن أبي رباح: “كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة.” وقول هشام بن عروة عن أبيه: “ما رأيت أحدًا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة

أما عمرة بنت عبد الرحمن، فقد نشأت في كنف عائشة، وكان أهل المدينة يلجئون إليها لمعرفة الأحكام في العبادات والمعاملات، وتعتبر المصدر لعدد من الأحكام الشرعية، منها منع بيع الثمار غير الناضجة، واستشهد الإمام مالك في الموطأ بها، حيث ذكر إن عمرة كان تبيع ثمارها وتستثنى منها الثمار غير الناضجة ماعدا التمر لأن الثمار قد تفسد قبل النضج وهذا يؤثر على عملية البيع. كانت عمرة تحظى باحترام العلماء و ثقة المجتمع، ووصفها ابن سعد في كتابه “الطبقات” بالعالمة، واستشهد مالك بأحكامها كذلك في باب الحج وباب العمرة في موطئه، وكذلك نقل البخاري عنها في صحيحه في باب الآذان عن كيفية الجلوس أثناء التشهد. ونقل عنها كذلك مسلم وابن ماجه وغيرهم من الأئمة

كذلك، كانت أمة الواحد بنت عبد الله الحسين المحاملي، مصدرًا من مصادر التشريع في أحكام المواريث في زمانها، كما يذكر الجوزي في كتابه “صفة الصفوة”، وكتب عنها الذهبي في كتابه “سير أعلام النبلاء”: “بنت المحاملي، العالمة، الفقيهة، المفتية، أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل، تفقَّهت بأبيها، وروت عنه، وعن إسماعِيل الورَّاق، وعبد الغافر الحمصي، وحفظت القرآن، والفقه للشافعي، وأتقنت الفرائض.” هناك أيضًا، عائشة الباعونية التي لقبت بروضة العلم، وربة الفضل والأدب، والتي كانت مثالًا للفقيهة الناشطة في الحياة العامة والسفر بين الأقطار والتواصل مع العلماء في عصرها، والتفاعل معهم فكريًا حول الموضوعات الدينية، وتركت الكثير من الكتب الدينية مثل كتاب “الممالك الشريفة والآثار المنيفة”، وديوان “مولد جليل للنبي”، وكتبت القصائد والنثر المنظوم، وكان لها الكثير من التلاميذ/ات الذين يدرسون الدين على يديها. دهماء بنت يحيى المرتضى هي أيضًا عالمة فقيهة، وهي من الفقيهات القليلات اللائي وصل إلينا مؤلفاتهن مكتوبة، ومنها “شرحًا للأزهار” في أربع مجلدات، و”شرحًا لمنظومة الكوفي في الفقه والفرائض”

أما الفقيهتان المشهورتان فاطمة بنت عياش بن أبي الفتح البغدادية وابنتها زينب، فقد أثنى ابن تيمية على ذكاء فاطمة، والتي كانت تفتي لأهل دمشق ثم انتقلت إلى القاهرة وذاع صيتها، وسلكت ابنتها زينب نفس درب والدتها، ونسبها ابن سعد في كتاب “الطبقات” لأمها الفقيهة فذكر اسمها زينب بنت فاطمة بنت عياش البغدادي، ولم يذكرها باسم والدها الذي ربما لم يكن له نفس القدر من العلم والشهرة. ونعرف أيضًا عن زينب بنت أبي سلمة المخزومية، التي كانت من أفقه نساء زمانها في المدينة، وأم الدرداء الصغرى، هجيمة بنت حيي الوصابية الدمشقية، والتي وُصفت بأنها زاهدة واسعة الاطلاع، وافرة العقل والذكاء، والسيدة نفيسة حفيدة الحسن التي وصفت بأنها نفيسة العلم، وكان يستشيرها كبار العلماء في عصرها ومنهم الإمام الشافعي، واشتهرت كذلك بتفسير القرآن

كما عملت النساء في مجال تفسير القرآن، ومنهن ابنة فائز القرطبية، المفسرة العالمة باللغة العربية وآدابها، والفقه والقراءات، ووصفها الإمام الذهبي في كتابه “تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام” بأنها عالمة فاضلة متفننة في العلوم. والمفسرة رحمة بنت الجنان المكناسية، والتي وصفت بأنها عالمة بقصص القرآن وأخباره. أما في مجال الوعظ، نجد للمرأة دورًا يبدأ منذ عصر الرسالة، فالواعظة سمراء بنت نهيك الأسدية كانت تمر في الأسواق أيام الرسول لتأمر الناس بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، وتذكر في الكتب على أنها من ربات الوعظ والإرشاد. كما قامت النساء بإدارة المنشآت الدينية والإشراف عليها، فيما كان يعرف بمشيخة الربط والزوايا، وهي أماكن كانت بمثابة دور لرعاية المتصوفين/ات، وتعليم المريدين/ات والقيام بشؤونهم/ن واحتياجاتهم/ن اليومية، وكان يطلق على من يقمن بهذا العمل شيخات، وكن عالمات صالحات يقمن بتعليم القرآن والوعظ، وتوفير المأكل والمسكن لمن يلجأ إليهن، ولم تكن إدارة الزوايا والرباط مجرد عمل خيري تقوم به النساء، وإنما كان يعتبر في أحيان كثيرة وظيفة رسمية من الدولة

جميع تلك الأمثلة لنشاط المرأة في الفضاء العام للحياة الدينية، يدل على عدم منع المرأة في عصور الإسلام الأولى من العمل في المجال الديني، بل هو إثبات على عمل النساء في كل المجالات كفقيهة ومفتية ومحدثة وواعظة. إن منظومة أدوار الجنسين هي منظومة تتشكل وفق الظروف الاجتماعية والثقافية، وبالتالي فهي منظومة متغيرة عبر العصور. فمتى نشجع النساء مرة أخرى على الاجتهاد والإفتاء والوعظ، طالما توافرت فيهن شروط العلم؟

بعض المصادر المستخدمة: المرأة والحياة الدينية في العصور الوسطى بين الإسلام والغرب (٢٠٠١)، المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين (٢٠٠٢)، النسوية والدراسات الدينية (٢٠١٢)

منى علي، باحثة مهتمة بالشأن النسوي والبحث في التراث، وناقدة أدبية وفنية، عملت كراصدة إعلامية في مشروع بحثي عن رصد العنف القائم على النوع الاجتماعي في الدراما المصرية